أنا والجبرتي

رن جرس هاتفي فقطع حديثي مع رفقتي..الهاتف علي اذني الأن، بضع كلمات مقتضبة..فهمت من خلالها ان محدثي يريد مقابلتي علي وجه السرعة...الزمان يوم الاثنين..المكان خلف الجامع الازهر امام منزل زينب خاتون..وصلت في المكان والزمان المحددين..وهممت ان انظر الي عقارب ساعتي بتوتر..فتذكرت انني لم اشتري ساعة يد منذ ان اقتنيت الجوال فقد كفاني مؤنتها..ترقبت المكان حولي لعلي الحظه هنا او هناك..عربات الفول المدمس..وطلبة جامعة الازهر متسكعين بسراويلهم المتساقطة من مؤخراتهم..عبق التاريخ ورائحة الطعمية المتدفقة الي انفي تضفي غموضاً ناعماً علي المكان من حولي..وعروق الزمن وتجاعيد الزمان..وكتب الاقدمين تلف المكان..والباعة تتصاعد من بين اكفهم ابخرة اكواب الشاي المتراقصة..في هذا الصباح الشتوي البارد سيارات السوزوكي تشق الازقة الضيقة بصعوبة بالغة كانها إمرأة حامل تجاهد السير..بعض السياح المترجلين مهتمين بتسجيل تذكاراتهم عبر كاميرا رقمية مظهرين فرح طفولي يصل الي العته احياناً
وفجأة
-بسسسسست..هاي..انت نعم..انت انت..اووووووه يالا حمقي هذا الزمن
عندها فهمت انه يقصدني..وفهمت انني من هؤلاء الحمقي الذين يعنيهم
ذهبت اليه في خفة القط الاحمق!!..وهممت بالسلام عليه الا انه سارع بالمشي امامي قائلاً
- لا وقت لهذه الرسميات السخيفة..فنابليون علي الابواب
تنحت..آ..اقصد ذهلت وقلت له:
نابليون من ؟!!..وابواب ماذا يا حاج
احمر وجه غضباً واشاح عني وهو يسرع اكثر وانا اتبعه قائلاَ:
احمق..نابليون..ريتشارد..هتلر..ابو جهل..بوش..شارون..هؤلاء في الحقيقة شخص واحد..يتقمصه شيطان عبر الزمن ليعيد ترتيب الاحداث وفق خطة تخريبية..انا اتعقبه منذ حوالي عدة قرون من الزمان
كاد عقلي ان ينفجر لهلاوس هذا الرجل الغريب..انا حتي لم اسأله من هو وكيف حصل علي اسمي ورقم هاتفي الجوال..استوقفته امام مستشفي الحسين الجامعي..والناس يهمون بتخطي الاشارة وقلت محتداً:
ماهذا التخريف..سيدي..اظنك قفزت من صفحات كتاب الف ليلة وليلة..انا لا اصدق حرفاً مما تقول..خصوصاً مطاردة القرون هذه..أأنت تائه يا حاج و تريدني ان اعود بك الي بيتك
نظر الي بعينين اشتعل الفحم في جوفهما وقال:
سأريك شيئاً
حدق في عيني..فابصرت المباني تختفي من حولنا..والسيارات كأن الارض شقت وابتلعتها بصمت..كل شئ قد تغير..وفرسان فرنساويين يمتطون جياداً قوية بملابسهم الزرقاء والحمراء وبنادقهم وسيوفهم تتدلي من خصرهم..وقبعاتهم البيضاء المميزة
ووسط هذا الذهول الذي عقد لساني عن الكلام قال لي:
مصر الان محتلة..كما هو الحال في زمنكم بصورة او بأخري..مع بعض الفروق غير الجوهرية..
أخذ نفساً عميقاً ثم استطرد حديثه قائلاً:
المماليك كان لديهم مدافع و أسلحة نارية، ولكنها كانت شديدة البدائية، ويبدو أنها لم تكن تستخدم على الإطلاق، حتى إن أغلب شعبنا المصري لم يكن يعرف عن المدافع والقنابل شيئاً
ثم اقترب مني بوجه المغضن وقال بتركيز شديد:
الناس ذعروا من قنابل المدافع التي ضرب بها "نابليون" منطقة الأزهر، و البسطاء منهم وهم الأغلبية ظنوا أنها من أعمال الشياطين، وخرجوا إلى الشوارع يرددون: "يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"!!
هممت بقول شيئاً فأسكتني لأن عسكري فرنساوي مر بحصانه وكاد ان يحتك بنا وحملق فينا
فصاح محدثي محاولاً لفت انتباه العسكري بعيداً عني:
قلت لك لن ابيعك هذا الكتاب بأقل من 20 ديناراً..فلا تحاول فصالي يا هذا
ثم التفت بحركة مسرحية لتحية العسكري الفرنساوي الذي نظر الي شذراً مرتاباً وتفرس في سروالي الجينز ومعطفي الجلدي الاسود والكوتشي..غير انه اكمل مسيره غير مكترث
تنفسنا الصعداء وانتحي محدثي بي جانباً وقال بصوت خفيض:
هؤلاء الجنود قساة القلوب غلاظ..لا يتورعون عن الزج بك في جوانتانامو
حملقت فيه مشدوهاً فأكمل حديثة مربتاً فوق كتفي:
نعم اجل عندنا كما عندكم جوانتانامو..فلا يخلو منها زمن..التاريخ دائماً ما يعيد نفسه
ثم قال متابعاً حديثه:
الواقع أن المجتمع المصري غارقاً في زماني هذا بالإيمان بالأولياء والخرافات والتصوف، الناس أسرعت إلى مقامات الأولياء يطلبون المدد منهم لهزيمة الفرنسيين، وأثناء استعداد "مراد بك" للخروج لقتال "نابليون"،
ثم استطرد قائلاً بعد ان ابتلع ريقه
اجتمع شيوخ الطرق الصوفية الأحمدية والرفاعية في الجامع الأزهر وأخذوا يذكرون اسم الله (اللطيف) ليلطف الله بالناس وبمصر وينصرهم على الفرنسيين!!
ثم قال معقباً:
اما في زمانكم فالناس موهومون بالسلام والخيار الـ...الخيار الـ
قلت له مذكراً:
الاستراتيجي يا حاج
تبسم للمرة الاولي و اردف متسائلاً:
أتعرف الدينامو..؟!..اعتقد انك تعرفه..فلقد رأيت جوالك الخلوي..إنصت الي إذن سأحكي لك قصة وقعت معي شخصياً
انصت اليه فقال بهدوء ضاغطاً علي كل كلمة تخرج من بين اسنانه:
منذ ليالي تسلقت الي دار المجمع العلمي المصري الذي بنته الحملة الفرنسية في منطقة الناصرية بالقاهرة ليكون مقراً لعلماء الحملة وتجاربهم العلمية
باغته بالقول:
وحدك ..كوماندوز يعني..الم تخف منهم..ان تقع في ايديهم
قال بنفاد صبر:
نعم وحدي..انا لا اخشي احداً الا الله..كما ان فضولي العلمي يحملني علي المغامرة..المهم..انتهزت فرصة ودخلت حجرة من حجرات المعامل فرأيت شيء كالزجاجة له يد مثل الفلكة المستديرة يديرون بها الزجاجة، فيتولد من حركتها شرر كثيف، ويظهر له صوت وطقطقة،
ثم قال وهو يتجه بكامل وجهه نحوي وانفاسه لامست انفي
وإذا لمس شخص طرف الزجاجة الدائرة بيد وطرفها الآخر بيده الأخرى، ارتعد بدنه، وارتج جسمه، وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة عنيفة
قلت له ضاحكاً بسخرية:
هذه الكهرباء نحن نعرفها وكتوي بفواتيرها الشهرية
قال بضيق شديد:
نعم نعم اعلم انكم تعرفونها..المهم رأيت هناك أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا!!
فجأة رأينا كتيبة من جنود الفرنسويين تهرول نحونا وقرقعة حوافر خيولهم تصطك شرراً بالأرض...امتقع لون وجهة وصرخ وهو يجذبني ويجري:
اطلق ساقيك للريح..ان كنت تريد النجاة من جوانتانامو
جريت خلفه محاولاً اللحاق به..وخوفاً من الجنود المصممين علي الامساك بنا..وفجأة دخل عطفة ثم زقاق واختفي عن نظري..صرخت بصوت عال...
يا رجل هل لي ان اعرف من انت...يا رجل...يا رجل..
لم يوجاوبني سوي الصمت وفجأة تلاشي كل شئ ..وظهرت السيارات وعربات الفول وطلبة الازهر المتسكعين هنا وهناك..وكاميرات السياح الرقمية..
وافقت علي قول بائع الكتب يقول لي بنفاد صبر:
يا استاذ..يا بيه..هتشتري الكتاب اللي في ايدك ولا لأ
انتبهت انني اقف منذ ساعات علي باب مكتبة وفي يدي كتاب كان معروضاً علي الرصيف فوق الارض الاسفلتية المبتلة بإهمال فقلت:
اي كتاب تقصد
قال البائع بحنق شديد:
اللي في ايدك بآللو ساعة يا بيه..تاريخ الجبرتي
قلت له بشرود ذهن:
آه نعم الرجل..الجبرتي..نابليون..بوش..مصر..غزة..الكهربا..النووي
صاح البائع بغضب:
بعشرة جنيه يا بيه..ادفع او حطوه مكانه
دسست يدي في تجاويف معطفي الجلدي الاسود..وكرمشت له عشرة جنيهات في كفه..وانصرفت
وانا اهمم بيني وبين نفسي
ترى هل سنصاب بمثل هذا الذهول الذي اصيب به الجبرتي إذا أتيحت لنا الآن فرصة زيارة أحد المراكز العلمية في أمريكا مثلاً، أو هل سنفاجأ -إذا ما حدث صدام عسكري بيننا وبين الغرب يوماً ما- بأن أسلحتنا بدائية للغاية مقارنة بأسلحتهم
ونخرج إلى الشوارع لنهتف من خلف حكومتنا
"يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف"؟!
نتمنى ألا يحدث ذلك

4 عبرني:

lonely يقول...

ما رويته ليش خيال بعيدا عن ارض الواقع
فنحن نعيش فيما يشبه ذلك
اما عن تساؤلاتك الاخيره
هو انت ما تعرفشى ولا ايه
بجد ما حدش اداك خبر
يا راجل دا احنا نايمين فى العسل

غير معرف يقول...

روعة

دائما أحب لغة الجبرتي في كلامه وخصوصا حادثة مقتل كلهبر و الامساك بالشخص الحلبي - كما يسميه - ووقوع الهوجة العظيمة بين الناس والكرشة وشدة الانزعاج ........ ثم اعدام القاتل على الخازوق أو "خزوقته" كما يقول الجبرتي

فعلا رائع وكتابه رائع لولا اني قرأت منه مجرد مختارات من تاريخ الجبرتي طبعة مكتبة الاسرة بتاعة ماما سوزان الله يعمر بيتها ما تقولوش امين

بس بالنسبة لتساؤلات فخامتكم الاخيرة

بتفكرني اكتر بفيلم ليلة سقوط بغداد

تفتكر صحيح يا سمسم احنا معندناش سلاح ردع؟

بس اقولك بصراحة

انا عندي ثقة كبيرة جدا بالجيش المصري

الجيش دلوئتى بأة بيعمل مصانع بطاطس ومكرونة يا راجل

يعني على أهبة الاستعداد

وسلامي لكل الأسرى فى جوانتانامو

وتحية جبرتية افرنجية

والسلام



ملحوظة: بوست رائع
سؤال اخير: تعرف أميرة البلطجية فين؟ هموت وأقرأ لها اى حاجة او اعرف ايه اخبارها....بلغها سلامي لو تعرف مكانها وقول لها ان الذكرى العطرة مش سهل تروح

والسلام

بيتنا القديم يقول...

lonely
........
"احنا نايمين فى العسل..."
وحتي متي .. يطول بنا هذا النوم
حتي ننطلق هاتفين يا خفي الالطاف..!!
(:
دمت بخير

بيتنا القديم يقول...

احمدوف
......
"تفتكر صحيح يا سمسم احنا معندناش سلاح ردع؟"
تفتكر انت ايه..؟!
اميرة البلطجية بخير وهوصلها سلامك يا عسل
(:
دمت بخير